حفظ السر وعواقب إفشائه، مع انواع الأسرار هي؟
إن حفظ السر صِفة تدلّ على المروءة والنُّبل، ودليل واضح على الشَّرف والعقل، وسِمةٌ من سِمَات المَجْد والرُّشد، تلك هي صيانة السِّرِّ، والمبالغة في كتمانه، والحرص عليه كي لا يُمسَّ.
وَيكفيك دليلاً على منزلة هذه الصفة في قلوب الناس قاطبةً، إجماعُهم على امتداح صاحبها، ووزنهم عقلَ الرجل وشرفه، وهمَّته ومروءته، بميزان حفظه للسر ودفنه له، ولذا قالوا: "صدور الأحرار قبور الأسرار".
غالبًا ما كان والدي رحمه الله يردد هذا القول:
“كل سرّ جاوز الاثنين شاع”، وكنتُ أفهم من قوله أن السرّ إذا عرفه أكثر من شخصين يشيع ، إلى أن قرأت مرة في كتاب (فاكهة الخلفاء) شرحًا أن الاثنين لا يعني بهما إلا الشفتين، وبهذا يكون المعنى أن السرَّ سيشيع لمجرد أنّك نطقت به لسواك!
يقول جورج برنارد شو :
" حافظ على كل شيء جميل يسعدك. اجعله سراً بينك وبين نفسك، فكل شيء يعرفه البشر يفسدونه" .
وممَّا لا رَيْبَ فيه أنَّ الناس على حفظ الأموال أقدر منهم وآمنُ على حفظ الأسرار، فليس كلُّ أمين على المال حافظًا السِّر؛ ولذا يبلغ المرء من الجهد في تخيُّر مَنْ يستودعه مكنون سرِّه، ما لا يبلغ معشاره فيمن يستودعه نفيس ماله، ويخاف على سرِّه أن يُذاع أكثر ممَّا يخاف على ماله الضَّياع؛ لأنَّ المال غادٍ ورائح، وأما السِّرُّ فقد يكون في إفشائه إزهاق روح أو هتك عرض،
ومن عجائب الأمور أن الأموال كلما كثرت خزائنها كانت أوثق لها، أما الأسرار فكلما كثرت خزائنها كانت أضيع لها.
كما أن للسر نوعان هما :
الأول : ما يبوح به إنسان لآخر من أمر حدث معه، ويطلب منه كتمانه.
أما الثاني : فهو ما يبوح به من حديثَ نفسٍ بما يستحي الإنسان من إشاعته، أو أمرٍ ما يريد فعله.
إضافة إلى ذلك فقد أشارت دراسة حديثة أجراها باحثون في جامعتي "كارنيجي ميلون" و"كانساس" الأمريكيتين، إلى أن "نشر المعلومات الشخصية على الإنترنت من شأنه أن يلحق الضرر بالعلاقات الرومانسية بصورة تفوق ما يمكن أن يُحدثه من أمور إيجابية بخصوص هذه العلاقة" .
وقد يتهم بعضهم المرأة بأنها أضعف على كتمان السر وقد يقرأ آخرون دراسات تبين من خلالها أن المرأة لا تستطيع الاحتفاظ بالسر لأكثر من 47 ساعة، أو أن أربعة نساء من أصل 10 لا يستطعن الاحتفاظ بالأسرار على الإطلاق، إلا أن الواقع مغاير تمامًا وأن المرأة كالرجل تمامًا فيهما نزعة بشرية، منهما من لا يكتم سرًا، ومنهما من قد يضحّي بحياته لأجل سر.
ولنأخذ نموذجًا عن كتمان المرأة للسر: فاطمة ابنة النبي ﷺ، فعن عائشة أم المؤمنين قالت: كُنَّا أزواج النَّبيِّ ﷺ عنده لم تغادر منهنَّ واحدةٌ، فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها عن مشية رسول الله ﷺ شيئاً، فلمَّا رآها قال : مرحبًا بابنتي، ثُمَّ أجلسها، ثُمَّ سارَّها فبكت بكاءً شديداً، فلمَّا رأى حزنها سارَّها الثَّانية فإذا هي تضحك، فلما سألتها السيدة عائشة عمّا سارّها به ﷺ قالت فاطمة : ما كنت لأفشي على رسول الله ﷺ سرَّه.
كما يقال " سِرُّك أسيرك، فإن تكلَّمتَ به صِرْت أسيره " فكم من إظهار سر أراق دم صاحبه ومنعه من بلوغ مآربه، ولو كتمه أمِنَ سطوته، لأنّ في الكتمان قضاء الحوائج، وإنجاح المقاصد وبلوغ الغايات، قال رسول الله ﷺ : " استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود " وقال بعضهم : من حصَّن سره فله بتحصينه خصلتان : الظفر بحاجته، والسلامة من السطوات.
إن الأشياء الجميلة تكون في السر أجمل : فالنصيحة على الملأ فضيحة، والعظة أمام الناس جارحة، والصدقة في العلن قد تجرح كرامة، ولكن صدقة السر ترمم كرامة النفس، لذا كن جوادًا بالمال في موضع الحق، ضنينًا بالأسرار عن جميع الخلق.
لا تفتح صدرَكَ لكلِّ عابر، ولا تكن كتابًا مفتوحًا للجميع.
في درب الحياة لا تتخلَّ عن حذرِكَ، ولا تتجرَّد مِن تحوُّطِكَ، كن يقِظًا لمظنَّة حدوث أيِّ اضطراب عاطفيٍّ كحسد أو جحود أو نكران أو غمْز أو لمْز... وإذا استودعت أحدًا سرك فأفشاه فلا تلومنَّ إلا نفسك، إذ كان صدرك أضيق عنه،
قال عمرو بن العاص : " ما وضعت سري عند أحدٍ فأفشاه عليَّ فلمته، أنا كنت أضيق به حيث استودعته إياه" .
وفي ذلك يقول الشاعر :
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
فصدر الذي يستودع السر أضيق
نرجو أن المقال قد اعجبكم، دمتم في رعاية الله وحفظه.